برّأت أمس الدائرة الجناحية بالمحكمة العسكرية بتونس ضابط المخابرات التونسي سمير الفرياني من تهمة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي بالمس من سلامة التراب التونسي فيما قرّرت الحكم بعدم الاختصاص بالنسبة إلى تهم أخرى.
هذا الحكم كان نتيجة مرافعات ونقاشات وسماع شهادات واستنطاق دامت أكثر من ستة ساعات خلدت اثرها المحكمة للمفاوضة والتصريح بالحكم لتصدر حكمها في حدود الساعة السادسة من مساء أمس.
المحاكمة حضرها بعض المراقبين من تونس ومن الخارج، كما حضر المحامون سواء المدافعين عن الفرياني أو القائمين بالحق الشخصي، كما اكتظّت قاعة الجلسة بأهل المتهم والصحفيين وبعض الجنود.
انطلقت المحاكمة في حدود الساعة التاسعة و15 دقيقة في مرّة اولى ثمّ طلب من المحكمة انتظار وصول بقية المحامين، وأعيد النظر في القضيّة ثانية بعد زهاء العشرين دقيقة، في قاعة تعتبر ضيّقة أمام حجم القضايا التي ستنظر فيها.
بدأت المحكمة باستنطاق المتهم سمير الفرياني الذي نفى كلّ التهم المنسوبة اليه وقال إنّه توجّه بمكتوب الى وزير الداخليّة ليخبره بوجود تجاوزات صلب الادارة العامة للمصالح الفنية أي ادارة المخابرات والجوسسة ومقاومة الجوسسة، وقال إنّه كان مديرا بمصلحة التكوين، واضاف بأنّه كشف في مراسلته التي وجّهها لوزير الداخلية بتاريخ 12 ماي 2011 عن إعدام أرشيف ياسر عرفات بتونس لاخفاء علاقات الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بالموساد الصهيوني، وقال سمير الفرياني إنّه حاول لقاء وزير الداخليّة لكنّه لم يتمكّن من مبتغاه لذلك انتقل الى القصبة بغرض لقاء الوزير الأوّل وأثناء ذلك اتصل به وزير الداخلية وأبلغه بامكانية اللقاء. الفرياني قال لم أجد في الوزير شخصا محايدا، وقال تساءلت كيف يتمّ تكريم من أشرف على قتل الشهداء في تالة والقصرين وفي سيدي بوزيد وغيرها من المدن الأخرى ومن سعى الى قمع الثورة، بترقيته ومكافأته بادارة أخطر الأجهزة وأكثرها حساسية، وقال الفرياني إنّ ذلك ما دفعه للجوء الى الصحافة وأعمدة جريدة « لوداس L’Audace « (الجرأة) ثم في صحيفة «الخبير» عبر ثلاث مقالات كشف فيها عن الفساد في المؤسسة التي يعمل بها وعن قضيّة اعدام أرشيف دولة فلسطين في تونس.
وقال الفرياني إنّه بعد ذلك كان متجها بسيارته فتعرّض لعملية اختطاف من قبل ملثّمين كانوا في سيارات دون لوحات معدنية، ثمّ تمّ الاعتداء عليه بالعنف ونقله بسرعة الى قاضي التحقيق العسكري.
سمير الفرياني تمسّك بما ورد بالرسالة التي وجّهها الى وزير الداخلية، وطلب تبرئته وقال إنّي توجّهت الى الرأي العام بالحقيقة وإنّي أستحقّ الشكر على ذلك وليس السجن، وقال أردت أن أكشف عن ممارسات أتباع المجرم بن علي وأصرّ على كلمة المجرم.
بعد استنطاق المتّهم والتحرير عليه أحيلت الكلمة الى محامي القائم بالحق الشخصي للضابط ياسين التايب، اذ قال إنّ كلّ الوثائق تفيد بأنذ منوّبه التايب لم يكن يوم 8 و 9 و 10 في تالة أو في القصرين، وهي الأيام التي سقط فيها شهداء في المنطقتين، وقال إنّه كان موجودا لتأمين مقابلة رياضية في مدينة القيروان بعد أن غضب عليه النظام لعدم تنفيذه التعليمات من أجل قمع الثورة، واضاف المحامي إنّ الفرياني كان يعلم حسب رسالته بانّ أرشيف الدولة الفلسطينية تمّ اعدامه يوم 20 جانفي، فلماذا اختار الصمت والسكوت عن الجريمة الى غاية يوم 12 ماي 2011، أي بعد ما يناهز الخمسة أشهر، اذ كان بامكانه أن يصدر بالأمر قبل ذلك خاصة وأنّ البلاد شهدت زخما ثوريا في القصبة الأولى والقصبة 2، اضافة الى ما قام به فرحات الراجحي وزير الداخلية السابق عندما أحال عددا من الضباط والكوادر الأمنية على التقاعد الوجوبي وقال بعمليات تطهير صلب وزارة الداخلية كان عليه أن يتكلّم وقتها، وقال محامي القائم بالحق الشخصي إن «سمير الفرياني اشتغل في جهاز مخابرات نظام بن علي على مدى سنوات، وما كان عليه أن يدّعي البطولة وطلب المحامي عدم الاتجار بالشهداء وبدماء الشهداء، وقال المحامي إنّ رسالة سمير الفرياني الى وزير الداخلية لم تتضمّن أي كلمة عن الشهداء وعن الثورة وأنّه لم يتكلّم الاّ بعد أن تمت تسمية غيره في خطة مدير عام الادارة العامة للمصالح الفنية، وقال إنّ تصريحات الفرياني أضرّت بمنوّبه ياسين التايب.
ونفى القائم بالحق الشخصي رواية اعدام أرشيف دولة فلسطين بشهادة الفلسطينيين وسفير فلسطين بتونس اضافة الى شهادات الشهود، وقال إنّ اتهام منوّبه على حجب مواقع أنترنات غير صحيح وهو محض افتراء وقدّم شهادات الوكالة الوطنية للأنترنات، وأضاف بأن الفرياني تمسك «بحسن نيته وسعيه من خلال ما تولّى نشره الى كشف الحقيقة وانارة العدالة وأنّه لم يقصد من وراء نشره للمقالات الصحفية بجريدة الخبير أن يسيء الى أي موظف بوزارة الداخلية في شخصه وأنّ غايته كانت فقط اثبات حقائق وممارسات تقع في الوزارة ومن منطلق شعوره بالمسؤولية وواجب التصدّي للمسؤولين العاملين بوزارة الداخلية المتسترين على المجرم بن علي» وتساءل لماذا لم يتكلّم منذ البداية «أين ذهب شعوره بالمسؤولية؟ لماذا تبخّر شعوره بواجب التصدّي للمسؤولين المتسترين على بن علي، وطلب القائم بالحق الشخصي الحكم بادانة المتهم من أجل ما نسب اليه وتسليط العقاب المناسب عليه وقبول القيام بالحق الشخصي شكلا وفي الأصل بتغريم المتهم لقاء ضرره المعنوي بالمليم الرمزي والزام كل من جريدة الخبير ولوداس والمساء بنشر نص الحكم الذي سيصدر في القضية بصفحاتها لمدّة أسبوع.
النيابة العمومية رأت أيضا بضرورة محاكمة الفرياني وفقا لقرار ختم البحث الصادر عن قاضي التحقيق العسكري مؤكدة على الادانة.
بين تلك الآراء ورأي المحامين المدافعين عن الفرياني طلبت المحكمة استراحة لمدّة خمس دقائق وهو ما تمّ فعلا، عاد على اثرها الجميع الى قاعة المحكمة، اذ انطلقت المرافعات بمداخلة الأستاذ عبد الرؤوف العيادي الذي قال إنّ ايقاف منوّبه كان على طريقة العصابات وعلى طريقة ماكان يقوم به نظام بن علي، وقال إنّ كلّ ذلك كان مخالفا للاجراءت، وقال العيادي إنّ تصريحات منوّبه لم ينتج عنها أي مساس بأمن الدولة الخارجي، وقال إنّ الذين اتهمهم منوّبه أصبحوا شهود ادانة ضدّه وقال إنّ الملفّ فارغ وانّ هناك محاولات للتصدّي للكشف عن الحقيقة وعدم الرغبة في الكشف عمّا تعرّض له الشهيد زهير اليحياوي أو سهام بن سدرين، وأكّد العيادي وجود صلات بين بن علي والمخابرات الصهيونية الموساد، من جهته تعرّض الأستاذ محمّد عبّو لمفهوم أمن الدولة وأركانه وتساءل عن موضع مساس منوّبه بأمن الدولة الخارجي وطلب تكييف تهم منوبه وفقا لمجلّة الصحافة وليس وفقا للمجلّة الجزائية وطلب مثله مثل الأستاذ العيادي على أساس ذلك الحكم أصليا ببطلان الاجراءات واحتياطيا أي بصفة استثنائية الحكم بعدم سماع الدعوى.
الأستاذ شرف الدين القليل اعتبر أنّ قضيّة سمير الفرياني هي أوّل قضيّة سياسية بعد الثورة، وقال إنّه رغم صدور قرار بحلّ البوليس السياسي الاّ أنّ أجهزته ومؤسساته مازالت قائمة الى حدّ الآن، وطلب أيضا ببطلان الاجراءات.
مداخلة الأستاذ سمير بن عمر اثارت العديد من المفاجآت اذ قال إنّ الجهات المعنية تمكّنت من احباط ثلاث محاولات لادخال أسلحة الى البلاد التونسية فضلا عن وقوع عمليات انفلاتات أمنية وأرجع ذلك إلى الكشف عن إرساليات قصيرة بعثت بها ليلى بن علي لشخصيات ورجال أعمال وسياسيين ومنهم من له حزب سياسي، للقيام بأعمال تخريبية، وأنّه لا أحد أراد الكشف عن ذلك، وتمسّك سمير بن عمر برواية اتلاف جزء من الأرشيف الفلسطيني الذي يدين تورّط بن علي مع الموساد فضلا عن فضحه لرؤساء وامراء ومسؤولين وشخصيات وجيوش وشخصيات رفيعة وعائلاتهم في مسائل خطيرة، وقال إنّ أرشيف الدولة الفلسطينية هو أرشيف المخابرات الفلسطينية، وقال أيضا إنّ التايب بعث بشخص محمّل بحقيبتين وجواز سفر الى صخر الماطري بدبي وقال إنّه يرجّح أن تكون تلك الحقائب محمّلة بوثائق تدين بن علي وقدم المحامي تسجيلا لرجل الأعمال كمال اللطيف ووثائق أخرى قال إنّها تدعم ما ذهب اليه.وطلب بن عمر الحكم ببطلان الاجراءات واحتياطيا بعدم سماع الدعوى.
من جهته رأى الأستاذ عبد الناصر العويني أنّ جهاز المخابرات كان جهازا حساسا جدّا وأنّ عددا من العاملين فيه كانوا دون بطاقات مهنية بل يتنقّلون برموز وشفرات معروفة لدى قاعة العمليات الأمنية، وقال في خصوص القضيّة إنّ الفصل 248 من المجلّة الجزائية والمتعلّق بالوشاية هو المنطبق على وقائع هذه القضيّة وهو المتضمّن لضمانات أكثر، وقال إنّ هناك من عمل بجهاز المخابرات وتمّ تعيينه أمينا عاما مساعدا بحزب التجمّع المنحل، وقال إنّه لم يكن هناك نظام سياسي بأتمّ معنى الكلمة بل كان نظاما مشخّصا يعتمد القمع الغبي، وقال إنّ ليلى الطرابلسي وعماد الطرابلسي كانا يقومان بتصفية الخصوم باستعمال تلك المصلحة، أي مصلحة المخابرات التي وصفها بمغارة علي بابا وقال إنّ مشكل الفرياني هو محاولته فتح هذه المغارة، وقال إنّ ملفات القضيّة كشفت عن تمويل وكالة الأمن القومي الأمريكي لعمل المخابرات التونسية، وطلب الأستاذ العويني الحكم بعدم سماع الدعوى لعدم وجود أركان للجريمة، كما طلب المحامي عبد الباسط بن مبارك تبرئة المتهم وختم الأستاذ عمر الصفراوي منسّق هيئة الدفاع ومنسّق مجموعة الـ 25 المرافعات وقال ليس المشكل في تبرئة منوّبه أم ادانته بل المشكل في الكشف عن الحقيقة واعادة الاعتبار لمنوّبه، وشهد الأستاذ الصفراوي بنزاهة القضاء العسكري.
وبعد أن استمعت المحكمة الى كافة أركان القضيّة قرّرت حجزها للمفاوضة والتصريح بالحكم لتقضي بعدم سماع الدعوى في خصوص التهمة الأولى وبالتخليّ عن القضيّة لفائدة المحكمة المختصّة والتخلّي عن الدعوى الخاصة وارجاع ملف القضيّة والمحجوز الى النيابة العسكرية لاجراء ما تراه، ورفعت الجلسة.
هوامش
محاكمة عادلة
شهد كل المحامين والمراقبين من تونس ومن خارج تونس بنزاهة المحكمة العسكرية وباستقلاليتها وبأنّها وفّرت محاكمة عادلة لسمير الفرياني، وقال الأستاذ العويني إنّه لم يتعوّد بالقضاء العادل ولم ير من قبل محاكمة عادلة مثل محاكمة الفرياني.
مخطط لاختطاف شقيق الوزير الأوّل
قال أحد المحامين من الذين كانوا يعملون بالمخابرات إنّ الفرياني لم يتم ايقافه بسبب ملف أرشيف الدولة الفلسطينية وإنّما لكشفه عن مخططات ارهابية وعن وجود ارساليات تستهدف أمن البلاد، وقال إنّ احدى الارساليات القصيرة كانت تتضمن رموزا تحيل الى امكانية اختطاف الأستاذ صلاح الدين قائد السبسي شقيق الوزير الأوّل وهو محام ومبادلته بعماد الطرابلسي، وقال إنّ الحكومة والوزير الأوّل ووزير الداخلية كانوا على علم، وأضاف بأنّه تمكّن كمحام وخبير في أمن الدولة من الكشف عن العديد من العمليات الارهابية التي كانت تريد استهداف تونس وخاصة معبد الغريبة بجربة، وقال إنّه أبلغ الحكومة بذلك. القاضي رأى أنّه لا وجود لصلة بين هذا الكلام والقضية.
نشأت علاقات جيّدة بين كوادر من الجيش والصحفيين في اطار تسهيل مهامهم ولنقل وقائع القضيّة في أفضل الظروف.
ضيق قاعة المحكمة
قاعة المحكمة ضيّقة و لا يمكنها أن تتسع لمحاكمات من الحجم الثقيل، لذلك تمّ نصب خيمة لمتابعة أطوار المحاكمات لقتلة الشهداء.
مظاهرة
تظاهر عشرات المواطنين خارج المحكمة العسكرية ابتهاجا بتبرئة الفرياني.
منجي الخضراوي