ما الذي يساعد بعض الحكام على أن ينحوا للاستبداد? هل هو عيب في العقلية العربية, أم ضعف المجتمع المدني, أم ممالأة المثقفين من حملة المباخر?
يقف الدارس لتقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004, والصادر في مطلع 2005 عن الأمم المتحدة تحت عنوان (نحو الحرية في الوطن العربي) على حقيقة مؤلمة, حقيقة مرة تفيد أن العالم العربي يأتي في مقدمة المناطق الجغرافية التي تشكو شعوبها من كبت الحريات, واستبداد السلطة السياسية, بل بلغ الأمر إلى حدّ مقارنة بعض الأقطار العربية بآخر نموذج آسيوي لا يزال قائما, ويضرب به المثل على أساليب النظم الستالينية التي عانت ويلاتها شعوب أوربا الشرقية قبل سقوط جدار برلين.
جعلت هذه الظاهرة المتفشية في الساحة العربية كثيرا من المهتمين بالشئون العربية ينكبون على دراستها, والبحث في أسبابها, فزعم البعض أن الأمر يتعلق بإشكالية العلاقة بين الشرق والغرب, وأن الاستبداد سمة بارزة من سمات الحضارات الشرقية, وأن الحرية ميزة الحضارة الغربيّة, وادعى آخرون أن العرب والمسلمين لا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين لأنهم ينتسبون إلى العقلية العربية الإسلامية, وهي عقلية غريبة عن الحرية والديمقراطية, وهو ادعاء ذو طابع عنصري شوفيني لا يزال أصحابه مؤمنين بخرافة الثنائية : الشرق - الغرب.
إن تاريخ جميع الشعوب شرقا وغربا بالأمس واليوم حافل بالنضال ضد الاستبداد, وفي سبيل الحرية, والعدالة الاجتماعية, ثم إن أوربا المعاصرة عرفت في القرن العشرين نظما استبدادية قمعت شعوبها بأساليب حديثة تعد أساليب الاستبداد الشرقي بالمقارنة معها أكثر رأفة ورحمة.
أكدت الدراسات الجديدة رفض العرب للحكم التسلطي المطلق, وتعطشهم للتمتع بالحريات, والحكم الديمقراطي (ففي مسح القيم العالمي الذي شمل تسع مناطق من العالم بما فيها البلدان الغربية المتقدمة جاء العرب على رأس قائمة الموافقة على أن الديمقراطية أفضل من أي شكل آخر للحكم, كما جاءوا في أعلى نسبة رفض للحكم التسلطي: حاكم قوي لا يأبه ببرلمان, أو انتخابات).
قيم الحرية
إذا اقتصرنا على المرحلة الحديثة, ودون الرجوع إلى ما عرفته الشعوب العربية والإسلامية من تراث نضالي ثري ذودا عن قيم الحرية, ومقاومة لجميع أنواع الحيف والظلم فإننا نجد النخبة قد دفعت ثمنا باهظا ابتداء من الثورة العرابية حتى اليوم, ولم تنتظر الشعوب العربية في تمسكها بقيم الحرية حتى تملي عليها مشروعات الإصلاح من الخارج.
ما هي الأسباب إذن التي جعلت ظاهرة استبداد النظم السياسية تختفي من جل بلدان أمريكا اللاتينية, وتتقلص رويدا من البلدان الإفريقية جنوب الصحراء, وتستمر مسيطرة على جل الأقطار العربية?
إن الأسباب متعددة ومتنوعة دون ريب, ولكن يبقى السبب البارز كامنا - في نظري - فيما عرفته كثير من الأقطار العربية ابتداء من مطلع خمسينيات القرن العشرين حتى اليوم من سيطرة الحكم العسكري, أو نظام الحزب الواحد الشمولي, ورزحت بعض الشعوب العربية في بعض الحالات تحت وطأة الكارثتين معا, فالبحث عن أسباب ما يعانيه المواطن العربي من الحرمان والكبت في مجال الحريات الأساسيّة ينبغي أن يبدأ من تشريح طبيعة النظم السياسية.
قد يبادر البعض قائلا : إن الشعوب العربية منشغلة بقضايا الشغل, والخبز اليومي, والصحة والسكن, وآخر ما تفكر فيه الحريات العامة. إنه منطق دوغمائي لا يستقيم, وشعار سياسوي متخلف يستنجد به أعداء الحرية.
الشعوب محتاجة إلى الحرية احتياجها إلى الهواء والماء والغذاء.
ثم إن التجارب المعاصرة قد برهنت اليوم أن قيمة الشعوب بنخبها, وقدرتها على التجديد والتقدم, وتبقى كفاءة النخب السياسية, والثقافية, والإعلامية هي المحك فيما تتبوّؤه اليوم أمة من الأمم من مكانة مرموقة في العلاقات الدولية قبل العامل الجغرافي, أو السكاني, أو الثروة الطبيعية, فقد تغيّرت المعايير, وأصبحت المعرفة هي السلاح الناجع, إذا ضرب المرء مثلا على ذلك بفرنسا من بين المجتمعات المتطوّرة فإنه يلمس في يسر أن الفضل فيما تتميّز به من تأثير أوربيا ودوليا يعود أساسا إلى تألق نخبتها سياسيا, علميا, ثقافيا, فنيا, وإعلاميا, وليس بجهد المواطن الفرنسي العادي المقيم في القرى والأرياف, فهو جهد لا يختلف كثيرا عن جهد نظيره في كثير من البلدان الأخرى المتقدمة والنامية معا. ولعلك تستطيع القول دون مبالغة إن رسالة هذه النخبة تكاد تنحصر أساسا في عاصمة البلاد : باريس, شأنها في ذلك شأن لندن, أو روما.
وعندما نعود إلى الساحة العربية فإننا نلمس الظاهرة بنفسها, فمكانة الشعب المصري لا تعود إلى عدد السكان, ولا إلى ثروة البلاد الطبيعية, وإنما إلى نخبته ذات التقاليد العريقة عبر الأجيال من أحمد عرابي, وعبد الله النديم, والشيخ محمد عبده, وقاسم أمين, وعائشة التيمورية, ونازلي فاضل, إلى مصطفى كامل, وسعد زغلول, ولطفي السيد, وأحمد شوقي, وطلعت حرب, وسلامة حجازي, وسيد درويش, وعلي عبد الرازق, وطه حسين, وأم كلثوم, وعبد الوهاب, ونجيب محفوظ, وغيرهم كثير.
أما المثال التونسي فهو في هذا الصدد أبلغ وأوضح, فعدد السكان قليل, والمساحة الجغرافية متواضعة, والثروة الطبيعية محدودة, ولكن يحق للشعب التونسي أن يفاخر - موضوعيا, ودون وطنية ضيقة - بنخبته بلدانا أخرى أكثر اتساعا, وأوفر سكانا, وأزخر ثروة طبيعية, وهو لا يفاخر بما بلغته اليوم من نضج, وتنوّع ثري, وتمسكها بقيم الحرية والعدالة الاجتماعية, ووفاء لنضال الأجيال السابقة في سبيل التحرر والتقدّم فحسب, بل كذلك بتقاليدها المتواصلة من محمود قبادو, وابن أبي الضياف, وخير الدين, وبيرم الخامس, وسالم بوحاجب, وعلى باش حانبة, ومحمد باش حانبة, وعبد العزيز الثعالبي, ومحمد علي الحامي, والطاهر الحداد, والشابي إلى محمد الفاضل بن عاشور, وعلي البلهوان, والهادي العبيدي, والدوعاجي, وفرحات حشاد, والحبيب بورقيبة, وغيرهم.
وينطبق المثال نفسه على مكانة النخبة في إشعاع بلد صغير قليل السكان على الشعبين : الكويتي والفلسطيني بالمقارنة إلى شعوب عربية أخرى.
حَمَلَةُ المباخر
عندما نعود إلى التعمق في دراسة طبيعة النظم العربية نجد العلاقة بينها وبين النخبة المثقفة متوترة في جل الحالات, والسبب الأساسي لهذا التوتر هو كبت الحريات ابتداء من حرية الرأي والتعبير والنشر, فالسلطة عوض أن تفيد من ثقافة النخبة وعقلانيتها, ومعرفتها بالتجارب التاريخية قديما وحديثا فإنها تسعى في كثير من الأحيان إلى تحييدها بالترغيب والترهيب.
إنه من المفيد أن يؤرخ الدارسون لعلاقة المثقف العربي بالسلطة, وبخاصة منذ ميلاد الدولة الوطنية في خمسينيات القرن الماضي حتى اليوم للتعرّف إلى الأسباب الحقيقية لظاهرة التوتر في هذه العلاقة, وهي أسباب متنوعة ومتعددة, ولكن السبب الجوهري يبقى في نظري موقف السلطة من الحريات, كما أشرت إلى ذلك قبل قليل.
لابد من التلميح هنا إلى أن السلطة السياسية قد نجحت عبر وسائل الاغراء وإغداق الامتيازات في كسب فئة من (المثقفين) رسالتها الأساسية إضفاء الشرعية على سلطة غير شرعية, وتبرير أخطاء سياسة رديئة وفاشلة.
أساءت هذه الفئة إلى النخبة المثقفة العربية, بل قل قد أسهمت فيما عرفته الثقافة العربية في العقود الثلاثة الأخيرة في كثير من البلدان العربية من تردّ وسطحية لأنها همشت المثقف الحر صاحب الرؤية النقدية, وحاولت إسكاته متعاونة في ذلك مع أجهزة معادية للرأي الآخر, وتنظر إلى المثقف الحر بعيون الريبة والحذر.
إن التحديات الإقليمية والدولية التي يواجهها الوطن العربي اليوم برهنت مرة أخرى على خطر النظرة القصيرة والسطحية, وخطر التحالفات الفئوية على حساب مستقبل الأمة.
ومن المفيد في هذا الصدد القول: إن هؤلاء (المثقفين) من حملة المباخر قد سقطوا في عيون شعوبهم, وفقدوا مصداقيتهم, سقطوا لأنهم أصبحوا يدورون في فلك سلطان جائر, وتحولوا إلى خبراء في إضفاء الشرعية على سلطة غير شرعية مع الملاحظة أنهم لا يشاركون في صنع القرار السياسي, أو حتى الثقافي, بل يقتصر دورهم على التبرير والدعاية, وملء الفراغ الذي يتركه المثقفون المعادون لهذا النوع من السلطة, أو اللائذون بالصمت, والدخول في طور الكتمان حسب تعبير إحدى فرق الخوارج.
قد يتساءل البعض قائلا : ما هي طبيعة حوار المثقف والسلطة, وما هي أهدافه ? وقد يبدو لأول وهلة أنه حوار موجود, وله قنواته الدائمة, وهذا ليس صحيحا في الأوضاع العربية الحالية, بل هو منعدم في الكثير من الأقطار.
حوار المثقف والسلطة
إن حوار المثقف والسلطة لا يكون نافعا وجديا إلا إذا جرى الحوار في اتجاهين, وليس في اتجاه واحد, فيتحول إلى أوامر للتنفيذ , كما هو شأن علاقة السلطة بفئة (المثقفين) الذين لمحنا إليهم قبل قليل.
يسعى المثقف الحر إلى الحوار مع السلطة السياسية خدمة لمصلحة المجتمع, وتعبيرا عن موقف تيارات معينة, فهو لا ينقل رؤيته الشخصية, بل لا بد أن ترتبط هذه الرؤية بالصراع السياسي والاجتماعي الذي يزخر به مجتمع ما, ومن هنا تبرز أهمية قوة المجتمع المدني المؤمنة بالحوار, فلا جدوى, ولا قوة لحوار المثقف مع السلطة باعتباره يعبر عن رؤية معينة إلا إذا ساندته قوة اجتماعية صلبة من قوى المجتمع المدني, فالبون شاسع بين الخبير الذي يتعاون مع السلطة لإنجاز عمل فني معين, فهو يتلقى الأوامر, ولا يسمح له بإبداء الرأي إلا ضمن اختصاصه الفني, وبين المثقف الحر المدافع عن رؤية مجتمعية وحضارية معينة والذي يناضل من أجل الحريّة والتقدم, ويتصدى لكلّ محاولات احتكار السلطة, وتسخيرها لفائدة فئات اجتماعية محظوظة على حساب مصلحة المجتمع والناس.
إن هذه المسألة مرتبطة إذن ارتباطا عضويا بالمجتمع المدني من جهة, وبقضايا الحريّة من جهة ثانية, ومن هنا يبرز الفرق الكبير بين دور المثقف في المجتمعات الغربية الديمقراطية ودوره في الوطن العربي, فقوة المجتمع المدني هناك تجعل دوره مؤثرا, وتقرأ له السلطة ألف حساب. أما في الأقطار العربية فدور المثقف في جلّ الحالات مهمّش, وصوته مقموع بسبب ضعف قوى المجتمع المدني, فنظام الحزب الواحد من جهة, وكذلك المؤسسة العسكرية من جهة أخرى قد أمما المجتمع في كثير من الحالات, ولم يسمحا بظهور أي قوى مستقلة تؤمن بالتعددية السياسية والفكرية, وتنادي باحترام الرأي الآخر. ولا نغفل عن الإشارة في هذا الصدد إلى الثمن الباهظ الذي دفعه كثير من المثقفين العرب ذودا عن الحريات العامة, وعن التعددية السياسية والفكرية, ومن الحيف اتهام النخبة المثقفة العربية بالجبن, والاستسلام, فلا بد من تنزيل نضالها في الظروف العربية الرديئة, وفي حالات الاضطهاد والقمع, فقد قدّمت قائمة طويلة من الشهداء الذين سقطوا على درب النضال من أجل الحرية, وضد الطاعون الأسود الذي أطل برأسه المرعب على كثير من الأقطار العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين بصفة أخص.
اتضح مما سبق أنه لا يمكن عزل إشكالية حوار المثقف مع السلطة عن حالة المجتمع المدني, وعن وضع الحريات في هذا البلد أو ذاك, وقد مثلت النخبة المثقفة بالأمس, وتمثل اليوم دعامة صلبة ضمن قوى المجتمع المدني, إذ إن رسالتها تبرز أساسا في تجذير الوعي المدني, وغرس روح العمل السياسي, والإهتمام بالشأن العام, وقد استطاعت أن تؤدي هذه الرسالة في المجتمعات الليبرالية عن طريق الإعلام الحر, وعبر حرية وسائل النشر والتعبير.
أثبتت الممارسة اليومية لجميع أوجه نشاط المواطن العربي في الاقتصاد, والسياسة, وفي الثقافة والاعلام, وداخل الحقول, والمصانع, والجامعات أن الحرية هي شرط ضروري لكل عمل إبداعي, فهي تحرر الطاقات, وتخلق المبادرات, وتبعث الحيوية, فالشعوب العربية ليست أقل خيالا, وليست عقول أبنائها أدنى ذكاء حتى لا تستطيع أن تخلق وتبدع في جميع مجالات النشاط البشري من الانتاج الحرفي والفني إلى الابتكار في مراكز البحث العلمي, ولكن هذه الطاقة ملجمة ومكبلة لا تتحرك إلا بإذن, وفي اتجاه يحدد لها سلفا, وإذا اجتهدت, وتحركت من تلقاء نفسها فإنها تثير الريبة وتحاصر, وبخاصة إذا كان لهذا التحرك علاقة بالدفاع عن قيم الحرية, ويندرج ضمن دينامية قوى المجتمع المدني الحر.
ضعف المجتمع المدني
يتحدث بعض الدارسين عن ضعف المجتمع المدني في جل الأقطار العربية. وهي حقيقة موضوعية, ولكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح في هذا السياق هو : كيف يمكن أن نتحدث عن مجتمع قوي, ومؤثر في الحياة العامة في الوقت الذي تكبل فيه السلطة المجتمع بأسره, وتبث عسسها ليراقبوا كل ما يجري فيه من كبيرة وصغيرة?
قد يتساءل قارئ هذا النص قائلا: لماذا التركيز على الحرية, وضرورة الدفاع عنها, والسكوت عن حقوق الإنسان, وعن الديمقراطية?
لاشك أن الثالوث : الحرية, حقوق الإنسان, والديمقراطية, يمثل الدعامة الصلبة والشرط الضروري لكل عمل سياسي وفكري يسعى في الوطن العربي اليوم من أجل إعداد تربة خصبة لقيام نهضة عربيّة جديدة, ولكنني أذهب إلى القول : إن الحرية هي الأس المتين لهذه الدعامة, فلا يمكن أن نتصور احتراما لحقوق الإنسان, أو نتصور تجربة ديمقراطية, دون كسب معركة الحريات الأساسية, فقد حاولت بعض النظم العربية اتباع (موضة) الحديث عن حقوق الإنسان, واتضح مع مرور الزمن أن كل ذلك لا يتجاوز الشعارات, أما الممارسة فتختلف اختلافا جذريا عن الخطاب, ولم تستطع قوى المجتمع المدني أن تميط اللثام, وتكشف اللعبة بسبب غياب الحرية. إن القضايا الثلاث : الحرية, الديمقراطية, وحقوق الانسان قضايا مترابطة ومتلاحمة دون ريب, ولكن لابدّ أن تحظى معركة الحرية بالأولوية القصوى.
إن نضال الشعوب العربيّة في سبيل الاستقلال والتحرر قد تواصل في جل الأقطار العربية حوالي نصف قرن, ودفعت من أجل ذلك ثمنا غاليا, معركة الحرية من أجل التخلص من الاستبداد السياسي جديرة بالتضحية نفسها, ولا تقل شأنا عن معركة السيادة, ونيل الاستقلال.
إن الوطن العربي يجتاز مرحلة تاريخية لا تقبل التوفيق أو التلفيق, ولا ينفع في علاج أزمته الخانقة الترميم والترقيع, والحلول الجزئيّة, بل هو في حاجة ملحة إلى إصلاح جذري على أن تجمع قوى المجتمع المدني في هذا البلد, أو ذاك على أهداف الاصلاح, وعلى سماته. وينبغي في الوقت ذاته أن تتفق هذه القوى على اختلاف مشاربها على مبدأ وطني أساسي, وهو أن يتم الاصلاح بالطرق السلمية, وبأقل كلفة مجتمعية ممكنة اتقاء للهزات والعواصف التي تأتي على الأخضر واليابس, كما حدث فعلا في بعض الأقطار العربية في العقدين الأخيرين, وهنا تتحمل النظم الحاكمة المسئولية الأولى عندما ترفض الحوار مع قوى المجتمع المدني, وتتمسك بلغة الاملاء والقوة, والانفراد بصنع القرار.
يتمثل السبيل الوحيد لتلافي الخراب الآتي في فتح باب الحريّة على مصراعيه, وقبول مبدأ التداول السلمي للسلطة من خلال عملية تاريخية تتبناها جميع الشرائح الاجتماعية المناصرة للإصلاح داخل السلطة وخارجها, وفتح باب الحرية هو الخطوة الأولى في هذا الدرب السليم. وبذلك يستطيع الوطن العربي أن يشرع في إيجاد حلول حقيقية للأزمات الداخلية المتراكمة, وأن يواجه في الوقت ذاته التحديات الخارجية.
ولا يمكن أن توحد قوى الإصلاح جهودها, وتنسى تباين رؤاها السياسية والفكرية خدمة لهدف وطني نبيل إلاّ إذا توافرت لها حقوق المواطنة, وفي مقدمتها تمتعها بالحريات العامة, فحيثما نولِّ أنظارنا نصطدم بقضية الحرية وحتى تلك المقولة القديمة, التي تغنت بها بعض النظم العربية زاعمة أن قضايا الحرية والديمقراطية قضايا ترف فكري مسيطر على عقول النخبة, أما القضايا التي تشغل بال المواطن العربي العادي فهي قضايا التنمية الاقتصادية, قد سقطت, إذ إن التجارب التي عرفتها كثير من البلدان شرقا وغربا في النصف الثاني من القرن العشرين, قد برهنت أن الفساد الاقتصادي, وفشل المخططات التنموية هما نتيجة طبيعية للفساد السياسي, فلا يمكن أن نتصور ازدهارا اقتصاديا مطردا, وتنمية مستديمة وسليمة في مناخ سياسي فاسد يسيطر عليه السماسرة, وتطغى عليه ظاهرة المحسوبية, والإثراء على حساب مصلحة الوطن والناس.
إن حرية الإعلام أبرز مظاهر الحريات الأساسية هي التي تكشف عما في الزوايا من خبايا, وهي التي تميط اللثام عن الأيدي الخفية العابثة, وتفضح سوء السياسة, وسياسة السوء.
إننا واعون أن الحرية لا تمثل حلا سحريا لجميع المشاكل التي تراكمت نتيجة الاستبداد والفساد طوال نصف قرن, ولكن لا بديل عنها, إذ إنها الشرط الضروري والمدخل الرئيسي لكل عملية تحديث سياسي.
إن أنصار الحرية في الوطن العربي واعون أن الطريق طويل ومملوء بالأشواك, ولكن كتب عليهم أن يسيروا فيه حتى النهاية.
الحبيب الجنحاني